بعد قيام إسرائيل (١٩٤٨)، بوسائل القوّة، واستيلائها على ٧٧ بالمئة من أرض فلسطين، تمّ تهجير حوالي ٨٥٠ ألفاً من الفلسطينيين من أراضيهم وممتلكاتهم، وتشريدهم في البلدان المجاورة (إضافة إلى الضفة والقطاع)، وقد وفد إلى سورية منهم، حوالي ٩٠ ألفاً، مانسبته ٢ بالمئة من مجموع السوريين.
وقد تعاملت السلطات السورية مع هؤلاء اللاجئين، منذ البداية، بمساواتهم في الحقوق مع السوريين (ماعدا السياسية منها). وهكذا لم يمنحوا المواطنة، كما في الأردن، ولم يجر التمييز ضدّهم، كما حصل لأقرانهم في لبنان.
وفي العموم فقد عاش الفلسطينيون اللاجئون في سورية في وسط اجتماعي طبيعي، ومستقر، دون أي شعور بضيم أو بتمييز، بل إن المجتمع السوري استطاع استيعابهم، من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لاسيما أن العمل في مراتب الدولة كان متاحاً لهم، فضلاً عن تمتعهم بحقّ العمل والتملك والتنقّل والسكن والتعلم، وحتى أن النشاط السياسي كان متاحاً لهم في الكيانات السياسية الوطنية والقومية والأممية التي نشطت في سورية، منذ قدومهم إليها.
هذا يفسّر تعذّر نشوء «مسألة فلسطينية» في سورية، كما في بلدان أخرى، فالفلسطينيون فيها ليسوا مواطنين، ولا ينازعون على حقوق المواطنة، كما في الأردن، وهم يعيشون في بيئة مجتمعية متجانسة معهم، بدون أي توجّس، لا لأسباب طائفية/دينية، ولا لأسباب أمنية، كما في لبنان. وقد أسهم في ذلك واقع أن فلسطينيي سورية لم يشكّلوا كتلة سكانية وازنة (كما في الأردن ولبنان)، وأن النظام السوري امتلك على الدوام فائضاً من وسائل القوّة والسيطرة والتحكّم، ما جعل الفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، أكثر حذراً، وتكيّفاً، مع سقف «الحريّات» المتاح، على خلاف الحال في الأردن ولبنان. ولا شكّ أن خلو سورية من الصراعات الطائفية/المذهبية، لعب دوره في هذا الشأن، إذ لم يعن تواجد كتلة من الفلسطينيين في سورية شيئاً في المعادلات السكانية أو السياسية في هذا البلد.
لكن حال الفلسطينيين مع نشوء حركتهم الوطنية، ومع صعود المقاومة المسلحة، تغيّر كثيراً، إذ بات لهم كياناتهم السياسية، ودورهم في التفاعلات الإقليمية، كما بات لهم كيانهم المعنوي المعبّر عنهم، وهو منظمة التحرير، التي باتت بمثابة ممثلهم الشرعي والوحيد.
وبالمحصلّة فإن هذا التطوّر لعب دورا كبيراً في تعزيز إدراكات الفلسطينيين لمعنى كونهم شعباً واحداً، وأسهم في صوغ هويتهم الوطنية الجمعية، وإعلاء شعورهم الوطني المشترك. ومن جانب أخر، فإن هذا التطور لعب دورا مختلفاً، إزاء السلطة القائمة (حيث كانت)، وضمنه في سورية، إذ باتت جزءا من الطاقة الوطنية يعبّر عن نفسه في مواجهة السياسات السلطوية للنظام السوري، لاسيما مع وجود سياسة تدخّليّة وهيمنيّة سورية في الشأن الفلسطيني.
ولعله من المثير هنا ملاحظة التزامن بين ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية، وبين التغير السياسي الحاصل في سورية مع استلام حزب البعث للسلطة (١٩٦٣)، كما من المثير ملاحظة التزامن بين صعود حافظ الأسد (الرئيس السابق لسورية) إلى سدّة الحكم (١٩٧٠)، مع خروج المقاومة الفلسطينية المسلحة من الأردن، وتمركزها في لبنان، حيث صارت بمثابة دولة داخل دولة.
هكذا تشكّلت، منذ مطلع السبعينيات، مفارقة مفادها أن بعض العوامل التي حالت دون نشوء «مسألة فلسطينية» في سورية، أدّت في المقابل إلى نشوء ما يمكن تسميته مجازاً بـ «المسألة السورية» في الحالة الفلسطينية، والتي تتمثّل بالتدخّل السوري «العميق» في الشأن الفلسطيني، على غرار التدخّل السوري «العميق» في الشأن اللبناني، حيث الطرف الأكبر والأقوى يهيمن على الطرف الأصغر والأضعف، محاولاً استيعابه بطريقة ناعمة أو خشنة، بالرضى أو بالإكراه.
ومعلوم أن سورية، وتحديداً منذ عهد رئيسها حافظ الأسد، حاولت أن تتبوأ مكانة إقليمية متميّزة، ما انعكس على وعيها لذاتها، وعلى سياساتها وأدوارها الإقليمية، كما على الكيانات المجاورة، في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية بمثابة ورقة اللعب الرئيسة للّاعبين، من الفاعلين المحلّيين والإقليميين والدوليين، بحكم قيمتها السياسية بذاتها، وبحكم مداخلاتها مع ملفات وكيانات أخرى.
على ذلك، وبعد أن كانت الورقة الفلسطينية وضمنها المقاومة المسلحة، رابحة وضرورية، بالنسبة إلى النظام السوري، لحجب الأسئلة المتعلّقة بهزيمة حزيران (١٩٦٧)، ولاستخدامها في الصراع على النفوذ الإقليمي مع مصر الناصرية (وقتها)، بات الأمر مختلفاً في حقبة السبعينات، وبعد رحيل عبد الناصر، وانكفاء مصر على ذاتها (بعد حرب ١٩٧٣)، لجهة كيفية تكيفه معها، وتوظيفها.
معلوم أن سورية دأبت، منذ أواخر الستينات، وعبر طرق عدة، ومتوازية، على استيعاب الكيانات الفلسطينية، وتحديد قدراتها، والسيطرة على مساراتها أو توجهاتها السياسية. والأنكى أن سورية في سبيل ذلك قامت بإنشاء فصيل فلسطيني خاص بها، هو طلائع حرب التحرير الشعبية ـ قوات الصاعقة، وقامت بدعم فصيل أو أكثر (لا سيما الجبهة الشعبية - القيادة العامة). وعلى رغم أن قدرة الفصائل الفلسطينية («السورية») ظلّت محدودة، لضعف شعبيتها بين الفلسطينيين، وتدنّي دورها في مجال الصراع مع إسرائيل، إلا أنها لعبت أدواراً غير إيجابية في الحالة الفلسطينية، ما أثّر بدوره سلباً على إدراكات الفلسطينيين لسورية، وشكّل عامل قلقلة في العلاقات السياسية الثنائية الفلسطينية - السورية.
وفي كل الأحوال فإن هذه الاستطالات السورية في الحالة الفلسطينية لم تنجح، إذا ظلت الفصائل الممثلة لها معزولة، ولا تتمتع بأي ثقل وازن بين الفلسطينيين، بدليل أنها لم تستطع في غياب «فتح» وفصائل المنظمة (منذ ١٩٨٣)، توليد أية حالة نموذجية بديلة في مجتمع اللاجئين في سورية، ناهيك عن انعدام دورها في مجال الصراع مع إسرائيل.
بعد ذلك فقد شكّل ظهور حركة «حماس»، وصعودها اللافت في السياسة الفلسطينية، في العقد الماضي، نوعاً من التعويض للقيادة السورية، عن إخفاق الفصائل الدائرة في فلكها، إذ وجدت فيها ضالّتها لمناكفة القيادة الفلسطينية، على رغم احتساب «حماس» على منظومة «الإخوان المسلمين»!
الآن، ومع اندلاع الثورة الشعبية في سورية ( مطلع العام ٢٠١١) يبدو أن فلسطينيي سوريا باتوا في مواجهة وضع صعب، لاسيما مع اتخاذ الثورة طابعا مسلحاً، ومع استشراس النظام في عمليات القتل والتدمير لبعض المناطق المدينية، وضمنها مناطق مجاورة للمخيمات، كما حصل في اللاذقية ودرعا وحمص وحماه. وتنبثق هذه الصعوبة، أيضاً، من أن الفلسطينيين في هذه الظروف يعانون من الانقسام، ومن الافتقاد للإجماع السياسي، ومن تراجع مكانة اللاجئين في المعادلة السياسية الفلسطينية؛ زد على ذلك أن الكيانات الفلسطينية الموجودة في سورية محسوبة في غالبتها على النظام. وبديهي فإن كل تلك العوامل جعلت من الصعب على الفلسطينيين صوغ موقف سياسي، وأقله أخلاقي، يتضمن التعاطف مع الثورة السورية، ولو من دون أن يفترض ذلك حكماً المشاركة في أوجه نشاطاتها العملية.
فهذه القيادة الرسمية (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح)، مثلاً، التي كانت اتّخذت موقفاً حذراً وبارداً من ثورات تونس ومصر واليمن وليبيا، تماهياً منها مع النظام الرسمي العربي، وبالنظر إلى التجارب المريرة السابقة، اتخذت الأمر ذاته بالنسبة إلى الثورة في سورية، على رغم العلاقة الفاترة بينها وبين النظام فيها، بسبب مناهضته لسياساتها، ودعمه معارضتها؛ وعلى رغم المزاج «الفتحاوي» المعروف بتبرّمه من النظام السوري.
أما فصائل «اليسار» فلم يكن موقفها أحسن حالاً، على رغم أنها تتحدّث بلغة مزدوجة، بمسايرتها النظام في اعتبار ما يجري مجرّد مؤامرة وتدخّلات خارجية حيناً، وبمسايرتها المطالب الشعبية المتعلّقة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حيناً آخر؛ وعلى أي حال فإن هذه الفصائل لم تعد مؤثّرة في توجيه دفّة السياسات الفلسطينية، أو في مجال المجتمع.
ولعلّ حركة «حماس» كانت الفصيل الأكثر تأثّراً، وتفاعلاً، إزاء ما يجري في سورية، ومع ذلك فقد اتّسمت سياساتها في البداية بالتردد، إذ هي مؤيّدة لثورات «الربيع العربي»، بخاصّةٍ مع رؤيتها الصعود الباهر للتيارات الإسلامية في تلك الثورات، إلا أنها في حيرة إزاء الثورة السورية، حيث شكلت سورية حاضناً وداعماً لها، ومعزّزاً لشرعيتها ولمكانتها (مع محور طهران ـ دمشق ـ حزب الله ـ حماس). وعلى العموم، فقد حسمت «حماس» أمرها، بعد حين، بإخراج قيادييها، وبنقل مقرات قيادتها، من دمشق إلى القاهرة وقطر، بطريقة هادئة، ومن دون طلاق معلن، في ما بدا انه بمثابة خروج، أيضاً، من المحور المذكور.
أما الفصائل الفلسطينية الموجودة حصراً في سورية فقد وجدت نفسها في مواجهة تحدٍ كبير إزاء احتمال تغيّر الأوضاع في هذا البلد، بواقع معارضتها قيادة المنظمة والسلطة، وبحكم أنها تدين بوجودها وبمكانتها وحتى بشرعيتها للنظام السوري، لا سيما أنها، ومنذ زمن، لم يعد يلحظ لها أي دور في مواجهة العدوّ، ولم تعد لها مكانة وازنة بين شعبها، ولا تشكّل نموذجاً يحتذى ولا على أي صعيد. وربما أن هذا الوضع نمّى عند بعض هذه الفصائل قناعة مفادها أن مصيرها بات وثيق الصلة بمصير النظام، ما يفسّر المواقف والسلوكيات المتوتّرة التي باتت تعتمدها، وضمن ذلك محاولاتها إقحام المخيمات في ما يجري، بطريقة أو بأخرى.
وعلى الصعيد المجتمعي، أي خارج البنى الفصائلية، فقد وجد الفلسطينيون - السوريون (أي اللاجئون) أنفسهم في وضع صعب، ومعقّد، وثقيل الوطأة. فليس ثمة إجماع وطني عند كياناتهم، كما ذكرنا، بشأن ما يجري في سورية، وهذه التجربة الأولى لهم في التعامل مع حالة اضطراب سياسي في البلد الذي يعيشون فيه منذ عقود، وهو وضع غير مألوف بالنسبة إليهم، بالقياس إلى أحوال نظرائهم في دول أخرى. وبالتأكيد، فإن التجارب المريرة للاجئين في دول مثل لبنان والعراق والأردن كانت تثقل على مخيّلتهم، وتعزّز المخاوف عندهم.
لكن مع كل ذلك، فإن هؤلاء اللاجئين، على رغم استقرارهم الوجودي في سورية، لم ينسوا أنهم عانوا ما عاناه السوريون من حرمان ومظالم وامتهان للحقوق والحريات. نعم فلقد كان الفلسطيني بمنزلة السوري، في كل شيء (تقريباً)، بما فيه كل تلك الأشياء أيضاً، بما تتضمّنه من آلام وآمال. ولعل كل ذلك، معطوفاً على التنازع بين الوطنية الفلسطينية من جهة والطبيعة السلطوية التدخلية للنظام، من جهة أخرى، لعب دوراً كبيراً في عطف الفلسطينيين على الثورة السورية، ومناصرتهم للمطالب العادلة للسوريين.
في كل الأحوال فإن هذا العطف الفلسطيني على الثورة السورية، من الناحيتين السياسية والأخلاقية، لم يصل إلى حد دخول المخيمات على خطّ الثورة السورية، ربّما بسبب خبرات الفلسطينيين من تجاربهم السابقة، أو بسبب معرفتهم لحدود مكانتهم، ومحدودية دورهم.
مع ذلك، ففي معمعان الثورة ثمة فلسطينيون استشهدوا واعتقلوا وعذّبوا واختطفوا، بحكم تجاورهم مع المناطق الساخنة، أو بحكم ميولهم وعواطفهم السياسية، وخياراتهم الشخصية كأفراد. فثمة أطباء ساهموا في علاج الجرحى، وبيوت في المخيمات آوت مشرّدين، وعائلات اقتسمت لقمة عيشها مع جيرانها، وثمة قلوب رجفت خوفاً على الأصدقاء، وعيون بكت السوريين كما لم تبكِ فلسطينيين.
وربما أن أهم استنتاج فلسطيني من الثورة السورية مفاده أن قضية الحرية لاتتجزأ، وأن الحرية هي القضية المركزية للمواطنين العرب، وأن الأوطان الحرة تكون كذلك حقَاً بمواطنيها الأحرار؛ فلقد انتهى عهد التلاعب بالقضية الفلسطينية، وتوظيفها في استخدامات سلطوية.